في مدينةٍ تُدعى “نور القلوب”، كان الناس يتعاملون بنقاء، يطرقون أبواب بعضهم ببسمة، ويواسون بعضهم بكلمة؛ لم تكن هناك أقفال على القلوب، ولا سلاسل على الأياد، حتى الفقير إن لم يجد ما يُعطي، قدّم دعاءً، فيُستجاب له!
لكن الزمان دار، والدخان تسلل، لم يكن دخان حرائق، بل دخان القلوب المحترقة من الداخل؛ دخان الفتن والكذب، والمال الذي صار معشوقًا، والشاشات التي استبدلت الأعين بالصور، وصارت الآذان لا تسمع إلا ضجيج الفتن والصراخ، بعدما اعتادت على صوت الحق والسكون!
بدأ الناس ينسون، نسوا الله، فأنساهم أنفسهم، تكبّلت الأيادي .. لا صلاة، لا صدقة، لا عون، لا سلام، حتى العيون تكلمت ببرود، وكأن الرحمة انسحبت بهدوء! ماذا يَحدُث للعباد؟!
في هذا الظلام، وُلدت “ليان” فتاة بعيونٍ واسعة كأنها ترى ما لا يراه الآخرون، عاشت يتيمة، تربّت عند امرأة كبيرة في السن، تُدعى “الحبيبة”، كانت آخر من بقي من زمن النور!
قالت لها الحبيبة ذات ليلة: “يا ليان، هذه المدينة ليست ميتة، بل نائمة، والقلوب الغُلف ليست من حجر، بل مصابة، من يحمل النور يُشفى، ومن يُشفى، يعود بشريًا وتعودُ في قلبه الرحمة!
أهدتها كتابًا قديمًا، عنوانه: “مفاتيح الأرواح”. وفيه آيات وأحاديث وحكم من الزمن الجميل، قالت لها: ابدئي من هنا لا تخافي، النور لا يحتاج كثيرًا ليظهر، يكفي شمعة!
كبرت ليان، وبدأت رحلتها، كانت تمشي في الأزقة المهجورة، وتطرق الأبواب، وتقرأ آية، أو تسرد قصة، كانت تصنع كُتيبات صغيرة وتوزعها، بعض الناس ضحكوا، بعضهم طردوها، وآخرون سكتوا وبكوا بعد أن أغلقت الباب،
يوماً بعد يوم، بدأت ترى علامات التغيير:
أمّ عادت لصلاة الفجر،
شيخ أعاد مالاً نسيه أحدهم،
شاب أوقف أغنية وفتح المصحف،
لكنّ الظلام لم يكن ساكنًا، كان هناك رجل يُدعى “فاخر”، يتزعم مجلس المدينة، كان يكره النور، لأنه يكشف قُبحه، أرسل في طلب ليان، وقال لها: لمَ تزرعين الأمل في أرضٍ قررنا أن تبقى جرداء؟ الناس لا يتغيرون، والقيود أزلية!
ردّت عليه بابتسامة قائلة: لو كانت القيود أزلية، لما انكسر البحر بعصا، ولا نجا نبيّ من النار!
غضب، وأمر بمنعها من دخول الأحياء، لكنها لم تتوقف؛ كانت تترك رسائل على الجدران، تضع كتبًا عند عتبات البيوت، وتُرسل الأطفال ليكملوا رسالتها!
وفي يوم من الأيام، استيقظت المدينة على صوتٍ لم تعرفه منذ سنين؛ كان صوت تكبير آتٍ من ساحة مهجورة، تجمّع الناس، فرأوا أطفالاً يصلّون، وخلفهم شباب وكهول!
ثم ظهرت ليان، على تلّة صغيرة، وقالت: لا تنتظروا معجزة لتفيقوا، أنتم المعجزة حين تختارون الصدق. هذه المدينة ليست جهنمًا… إنما هي اختبار!
ومنذ ذلك اليوم، بدأت السلاسل تتساقط، سلسلة بعد أخرى، يد بعد يد، قلب بعد قلب
ورغم أن الظلام لا يرحل دفعة واحدة، إلا أن الشمعة التي أشعلتها ليان، صارت شمسًا!
النهاية، أم البداية؟! ربما حين تكبّلت الأيادي، كان علينا أن نبحث عمّن يملك مفاتيح القلوب!
ومن يومها، تغيّر كل شيء، بدأت المآذن تُرفع من جديد، لا بالصوت فحسب، بل بالأثر!
وتعانقت الأيادي التي كانت مقيّدة، فارتفعت بالدعاء، وتفتّحت القلوب التي غلّفها الغياب، فعادت تعرف الحب والرحمة، وفي زوايا المدينة، بات النور لا يُستجدى، بل يُعاش!
وبات الناس يروون قصّة ليان لأطفالهم، لا كحكاية، بل كوصيّة:
“إن ضاع النور في الطرقات، لا تنسَ أن تشعله في قلبك أولًا.”
وهكذا، حين عرفوا الطريق، لم يعودوا يسألونه، بل صاروا يدلون عليه!.
بقلم الأديبة أمينة نور